كثير من فقراء بلادي قبل الأغنياء متورطون فيما وصلت إليه أحوال البلاد والعباد، أَدركوا ذلك أولم يـــــُدركوا، فهم الذين يدافعون بحماس واستماتة عن الدولة التي تلعب، فى مسرح العبث الذى نحياه، دور “الجلاد السادي”، الذي لا يفك قيد ضحيته إلا جثة هامدة تنزف على الأرض، يستقوي بفقرهم ويتلذذ وهو يتاجر بقوتهم، في الوقت الذي تطلب الضحية مزيدا من العنف والسادية، بينما يردد بعض مسئولي الدولة بأن الفقراء أكثر تحملا من الأغنياء، ويرفضون السفر إلا على متن طائرة مخصصة لرجال الأعمال.
ربما يــُغضب بعض القراء مما سبق، لكن دعنا نتذكر أنه منذ أيام
(تحديدا في الخامس والعشرين من سبتمبر 2016) غرقت مركب هجرة غير شرعية أمام سواحل
مدينة رشيد، وكان على متنها ما يزيد على الـ500 مهاجر غير شرعي، راح منهم ما قرب
من على الـ204 غرقى ومئات من المصابين والمحبطين، مرت الفاجعة كما سيمر غيرها،
وبعيدا عن استهانة الدولة بأرواح الغارقين وإحالة الناجين للمحاكمة، يلفت النظر
هنا نظرة المجتمع لـ”الضحية والجلاد”.
ففي الوقت الذى أغمض كثير من الشعب عينيه عن “القطط السمان”
والأموال المنهوبة والمهربة خارج البلاد، راح يدين بشراسة من عاشوا كادحين وماتوا
غرقى بتهم الجشع ونية الثراء الفاحش، ولم يفكر هؤلاء ما الذي دفع الشباب إلى مركب
الموت، بينما هم أيضا من عنــَّـــــفوهم بقولهم: “اللى مش عاجباه أحوال البلد
يسيبها ويهاجر أو يغور في أي داهية”!!، هذا المجتمع هو أيضا من أصابه الخرس حينما
كان حريـــًا به أن يسأل مَن وراء سماسرة الموت؟.. المجتمع الضحية يدين المهاجرَ
المغلوبَ على أمره، ويــَــــــدّعي أيضا تعاطفه مع الموت والإنسانية!!، هو أيضا
من سأل من أين لهؤلاء الفقراء الصعاليك بـ30 أو 40 ألف جنيه؟ ولماذا لم ينفذوا
مشروعا بهذا المبلغ يصب لصالح البلاد التي حولتها حرائق الأسعار لرماد تذروه
الرياح؟
المفارقة هنا أن كثيرا من الضحايا الذين يعلو صراخهم أمام زيادة
الأسعار على سبيل المثال، تجدهم يكيلون للشعب تهم الرفاهية والجشع والكسل وأحيانا
الخيانة والعمالة وغيرها، وفي اتهاماتهم بعضٌ من الحقيقة، لكن هذا لا يبرر تلفيقهم
للحكومة ألف مبرر في عجزها عن إدارة شئون البلاد وفشلها فى حلول للعديد من الملفات
التي تــُحمِّلها على ظهور الشعب الكادح، من بينها الغموض الذي يحيط بمصير الجنيه
المصري، والجنون الذي أصاب سعر الدولار في السوق السوداء، ويسألون جادين: ماذا
ستصنع لك الحكومة؟، بل يقطعون شوطا أبعد في بحر المهانة، ويسألون مستنكرين:
أتريدها خرابا كسوريا والعراق؟!.
لستُ معنيا هنا بإدارة جدل بيزنطة الذى لن ينتهي بقدر ما أسعى
لرصد ظاهرة حقيقية يعاني منها المجتمع في بلادنا تتمثل في لذة العبودية بصورتها
المجردة، ولعل طرح بعض التساؤلات قد يكون مفيدا لإنارة الفكرة، ربما نستعيد “نار
بروميثيوس” لتنير لنا الوعي الغائب الملقى في غياهب عقولنا التي استــُبدلت بأخرى
زائفة: فما الذي يصنع منا عبيدا لتوجه سياسي أو مذهب ديني أو لشخص أو لفكر ما عن
أي شىء؟، ولماذا حينما تسقط الأقنعة وتتكشف الأوهام نتغافل الحقائق ونتعالى عليها
حتى صرنا أعداء للحقيقة؟.
بعبارة أخرى ما الذى يورطنا ويجعلنا ضحايا للموروث والوعى، الذي
يتطور حد التغيير، حتى تغرق آذاننا في عبودية ما نفكر فيه، وما العوامل التي تسهم
في إدمان حالة العبودية هذه، بل والتلذذ بها، وربما نتطرف فندافع عن الجلاد
باستماتة؟
وهل حقا أن مدمني العبودية لا أمل في شفائهم فقد اعتادوا أن
ينقادوا دائما، ما جعل بعض السياسيين يلقون على أسماعنا أننا لم ننضج بعد، وأن
الديمقراطية والحرية لا تصلح لهذا الشعب، بل هى لعبة مدمرة لأمثالنا من الشعوب،
وما الآلية التى تحكم كل هذا؟ وهل حقا سنصير حيوانات في غابة الحياة إذا نلنا
حريتنا، بحسب تصورات البعض.
بيت القصيد والسؤال الرئيسي: هل المعطيات السياسية أصابت عقولنا
بالاختلال النفسي فأدمنا تعاطي القيود، وصارت الحرية شبحا يهدد عقولنا “التي لم
تنضج بعد”؟ وما الظروف التي أوصلتنا لهذه المرحلة؟ ومن المسئول عنها؟ ولمصلحة من
جعلونا مسوخا، وأوهمونا أننا لا نعرف شيئا، ولا نحسن التصرف، ولا نملك تقرير
مصيرنا؟، وما الآلية التى تـــُحـوِّل أحدَنا إلى إدمان العبودية والاستمتاع
بلذتها، أو تــَـــحيل بيننا وبين العبودية وعذاباتها؟..
أوليست الإجابة تتلخص في وعينا المجرد بما يدور حولنا من دون
نفاق أو تملق أو خداع لذواتنا، وقتها فقط سنعيد كل الموازين إلى نصابها الحقيقي،
ويأخذ كل ذي حق حقه، وربما تعود الأرض الطيبة إلى حقيقتها بعدما نــُخرِجُ الخبثَ
الذي لحق بالوعي والذات جراء صنيع المستعبدين في الأرض.
تعليقات
إرسال تعليق