لم يعد جيل الشباب في مصر يبالي بالمسميات وبالمصطلحات الموحية بالمعرفة في ظاهرها، ليس عن جهالة، بل لأن ما رأوه من أهوال ومفارقات ومتناقضات خلال تعاقب 4 أنظمة رئاسية في 6 سنوات حتى الآن علَّمهم أن العبرة بالنتائج، وأن ما يتحقق على أرض الواقع هو الميزان الحقيقي لقيمة ما يقال، أما ما عدا ذلك فمجرد شعارات زائفة لسنا بحاجة إليها.
في
بداية العام تم إعلان 2016 عامًا للشباب، وكان الشعار: “بقوة شبابها تحيا مصر”،
إيمانًا من الدولة بأهمية الشباب فى صياغة الحاضر وصناعة المستقبل، مرت الأيام وتم
اعتقال عدد من الشباب في حملات عشوائية سبقت أحداث “جمعة الأرض” التى لم تمر سوى
باعتقال عدد آخر. جرت أحداث كثيرة ليس آخرها ما حدث بعد اختيار فيلم “اشتباك”
للمخرج الشاب محمد دياب في قائمة أفضل 10 أفلام في مهرجان كان السينمائي، إذ عرض
التليفزيون المصري تقريرا عن دياب مفاده التخوين وعداوة الدولة.. دياب لم يكن
أوَّل من تُشوَّه سمعته ولن يكون الأخير، فالقوسان مفتوحان ضيفوا بينهما مَن
شِئتم.
جيل
الشباب لم يشهد أوهاماً كثيرة صدَّرتها الدولة لأجيال سبقتهم على أنها انكسارات
خرجت من رحمها انتصارات عظيمة (سياسات الفترة الناصرية وأزمات النكسة نموذجاً)
أورثت بعضاً من أجيالها عُقد الخوف، وصدَّرت معها مَن يُعرفون بمفكري المرحلة، أو
العظماء، وأورثت أجيالها أوهام القداسة.
لم
يعد الشباب يبالون بالألقاب المهيبة التى فُتن بها مَن قبلهم، بل صاروا يطالبون
بوضوح المعنى، وبسياسات حقيقية تمس الشارع، وتنعكس على المواطن ليعيش حداً أدنى من
الآدمية، وتُترجم أحلامهم على أرض وطنهم بدلاً من أن يتسولوا أحلامهم في بلاد
الأغراب.
حقيقة
الأمر أيضاً تلزمنا بالقول أن الشباب لم يشارك في حرب ما، ولم تنل منه نوباتها
النفسية والعصبية، أعني أنه لم يحمل سلاحاً ويحارب العدو على الجبهة الأخرى، لكنه
عاصر حروباً من نوع آخر، فتشكَّل وعيُه على نحو لم تدركه الدولة المعاصرة ولا
مسئولوها، بل قد يكون آباؤهم وأمهاتهم.. ما صنع بدوره حفرة كبيرة تبتلع الجميع
وتجعل كلاً منا في جزيرة منعزلة حيث نعيش زمن التيه والشتات.
لم
يعاصر الشباب شيئاً من هذا، لكنه رأى بعيونه بحور الدم في الثورة المصرية وما
تلاها من أحداث، وسجلت الكاميرات عيوناً تُقتلع، وشباباً يُسحل، وعِصياً تنهال على
الرؤوس والأجساد من دون رحمة، وفوضى من العنف لم تورث هلعاً بل أورثت صخباً
بداخلنا، ومصائر تُحطَّم في غياهب السجون؛ أصدقاء بالأمس كانوا بيننا، واليوم
صاروا خلف الأسوار، وغداً سيخرجون منعزلين عن العالم، ما لم يخرجوا مسوخاً مشوهة،
أو قنابل موقوتة ستنفجر في وجه الجميع.
قبل
زمن ثورة يناير لم تكن ثمة مؤشرات تلوح فى الأفق توحي بأن وعي جيل الشباب سيتشكل
يوماً، هذا إن كنا نعي معنى كلمة وعي آنذاك من الأساس، لاعتبارات كثيرة لعل أقلها
التعتيم والجهل الذى تجرَّعناه في المناهج التعليمية الحمقاء، والآن، وبعد مرور 5
سنوات و5 أشهر تقريباً، أدركنا أننا جيل خرج من رحم الشك، بعدما رأى السقوط المدوي
والصارخ للأقنعة الذي أدخلنا في المتاهة الكبرى. انعزل كثير منا بداخل ذاته يبحث
عن الحقيقة مجردة بعد أن خذله الأكبر منا سناً، وحاولوا تمرير ما صدَّرته الدولة
لهم تحت مسمى النخبة المثقفة وصفوة المجتمع، وهم في الأصل صنيعة عجز مَن حولهم
حيناً، ونفاقهم أحياناً.
أدرك
الشباب أن غاية اللعبة أن تظل فى المتاهة، تبحث عن رسالة هنا، ومعنى هناك، لكي تصل
لاستنتاج ما، لعلك تتلمس ما يدور حولك من أحداث قد تتورط فيها إن لم تدرك خطوطها
العريضة، ولما أرهقهم طول البحث في الفراغ الكبير المصنوع من حولهم آثروا الانعزال
والسخرية.
لم
يتبقَّ للشباب سوى السخرية أداةً يواجهون بها واقعاً مريراً وعالماً لفظهم لمجرد
أنه لم يفهم أنهم أبناء وعي مغاير، سفَّه المجتمع من أحلامهم، واتهمهم بالخيانة،
فرموه بسهام السخرية التى قد تغيظ، ولو كلف المجتمع نفسه أن يفكر فيها لمات ضحكاً
من صنيعه، هذا إن لم يُعجب بمنهجهم، وينافسهم السخرية.
ليس
المقصود هنا أن نعالج أمورنا بالسخرية بقدر ما هو محاولة لفهم لماذا وصلنا
للسخرية، وارتضيناها أسلوباً للحياة.
حاول،
ولو لمرة، أن تقترب من هذا الجيل، وتُوليه اهتماماً وثقة كي تسمع حواراً للجادين منهم
عن المشروعات والأفكار التى يتحدثون عنها، وكم من العثرات التى وقفت فى طريق هذا،
وستسمع الأساطير عمن تفننوا فى تعطيل مشروع ذاك، بل بين هؤلاء الشباب من نفَّذ
مشروعه، ووقف محلك سر لأنه لم يجد مموِّلاً لمشروعه، أو وجد مموِّلاً طمع
فيه وقرر مكافأته بحرمانه من فرحة تحقيق الحلم بعرض الشراء بثمن بخس والتنازل عن
ملكية المشروع، وسلب حقه فى الطموح.
يا
أيها المجتمع المثالي، لا نريد منكم أن تقدموا لنا شيئاً، لكن دعونا نعاني من شقاء
أحلامنا لوطن نحلم أن يليق بنا، لعل هذه الأحلام تُترجم يوماً، لا تطلقوا على
أحلامنا الرصاص وتغضبوا من السهام الساخرة، احترموا هذا الوعي الذي تشكَّل في ظروف
قد تخلق مجرمين لا حالمين.
تعليقات
إرسال تعليق