التخطي إلى المحتوى الرئيسي

هل تكرهنا الحيــاة؟!



يـُروى فى الأثر الشعبي أن كثيرا من المصريين حينما يضحكون حتى تمتلئ عيونهم بالدموع، يتوجهون بحديثهم إلى الله “خير اللهم اجعله خير”، ويظلون دائما فى انتظار وقوع كارثة، وكأن الفرحة الغامرة التى أحالت ضحكتهم بكاء خطيئة اقترفوها، وها هم في انتظار أن يُـنزل القدر عقابه على سعادتهم.
فهل نحن شعوب تكره الحياة وتهابها إلى هذا الحد؟

1

حينما يمر أحدنا بلحظات من السعادة مع الأهل أو الأصدقاء أو يحقق نجاحا ما، يظل يترقب المجهول، وينتظر من القدر مفاجأة غير سارة، تـُحيل حياته جحيما، فهل أصابنا القلق وتمكنت المخاوف من عقولنا، فأصابتنا الهلاوس، وصار المجهول شبحا يطارد عقولنا، ونال من سلامتنا النفسية والعقلية، وصرنا نصارع طواحين الهواء في الشوارع والأسواق، ونعيش خائفين من أوهام تحجبنا عن الحياة وتحجب الحياة عنا.

2

صارت الوجوه عابسة، والقلوب غاضبة، وبراح الأرواح معلق بخرم إبرة، بات الشك والريبة والترقب هى المشاعرالتى يصدرها بعضنا لبعض، وحين نلمح شُـبهة ابتسامة على وجه من الوجوه، قد نتهمه بالمرض العقلى، ونردد وتطيب الحياة لمن لا يبالي، بل قد يصل بنا الأمر لمطالبتنا باعتقاله مجتمعيا لشبهة التفاؤل، أو نردد: (هو فيه ايه.. لا مفيش الناس ملمومة على حد متفائل)، بحسب الكوميكس الشهير.

المفارقة أننا حينما نرى الأوروبيين يعزفون الموسيقى ويرقصون، ويستمتعون بالحياة، نردد هذه هى الشعوب وهذه هى الحياة، كم نحن شعوب مدمنة لجلد الذات، وكم أصابت التشوهات عقولنا حد التناقض.

السؤال الآن، ما الذي وصل بنا إلى هذه الحالة التي يـُرثى لها؟
بعبارة أخرى ما المعطيات الاجتماعية والنفسية وإسقاطات الوقائع السياسية التى أدت بنا لأن نتبادل الكراهية مع الحياة (نكرهها فتكرهنا)، وهل من سبيل للخروج منها أو التعايش معها أو التحايل عليها لنحيأ السنوات القليلة على ظهر الأرض شبه أسوياء؟

3

سأختص بحديثي السنوات الخمس الأخيرة، ففي رأيي أن ثورة يناير كانت فارقة فى وعى المصريين المعاصر، إذ أوقفت الجميع ليسأل ما الذى يحدث في البلاد، ونبهت المصريين من دون سابق إنذار على الكارثة التى يعيشيون فيها، لتبدأ رحلة البحث والتتبع عن قرب لما يحدث.

ولن نتطرق إلى ما هو معروف عن الثورة بالضرورة من أنها أثارت الفوضى وجاءت بالخراب، وأخرجت من المصريين أسوأ ما فيهم إلى آخر سيناريوهات كيف كانت مؤامرة تورط فيها الشعب، فهذه روايات سيمحصها أهل التاريخ على طريقتهم!

ألقت الثورة بظلالها، أو بحسب ما تم توظيفه، على عدد من القطاعات؛ انتحرت السياحة بعد الفوضى التى عمت البلاد، عن عمدٍ أو عن غير عمدٍ، وتخبطت قطاعات أخرى حد التعثر وتسريح العمالة (المصانع والشركات)، وألقى قطاع المقاولات نفسه من أعلى مبنى شيده يوما ما، فلم يعد عمال المقاولات الجالسين على أرصفة الطرقات يجدون قوت يومهم، بالإضافة إلى ما يحملون من أعباء أبنائهم الذين يحلمون بتعليمهم كى لا يروا ما رآه الآباء في شوارع العاصمة.

أغلقت كثير من الصحافة والإعلام أبوابها، وما تبقى منها على قيد الحياة يقدم رواتب متأخرة، بل وصل الأمر أحيانا إلى فكرة تقسيط الراتب، والحق لقد تم الدفع ببعض المنابر الصحفية والإعلامية فى طريقة الخطيئة، ودفع صغار الإعلاميين والصحفيين ضريبة ما يدور فى الكواليس.
أما الموظفون فأمرهم محسوم منذ توصل العالم إلى فكرة الوظيفة؛ يدبر حاله وفق أوضاعه الوظيفية الضيقة التى أثقلت ظهره حد الإعياء.. والقائمة مفتوحة لإضافة عدد من المهن التى راحت فى الوباء، ضف إليها ما شئت.

4

يتخرج آلاف من الشباب سنويا إلى سوق العمل، لم تـُعلـِّمهم الجامعات شيئا ينفعهم في هذه السوق، خرجوا كما خرجنا أنصاف متعلمين، لم يدركوا أن هناك سوقا للعمل كى يحملوا أدواتها، حتى لو أسعفه الحظ أو تم تمكينه من وظيفة، فلن يكون بأحسن حال من سابقيه.

أولم يكفل كل هذا لأن يتسرب القلق إلى عقولنا، وتتمكن منا هواجس تهدد المستقبل الذى تغيب عنه الملامح، ويتملكنا الشك في كل شيء، وتطاردنا الأحلام القتيلة في صحوتنا ومنامنا؟
لا تستطيع أن تنفي أن كل معطيات الحياة من حولنا تؤدى بنا إلى مهالك الجحيم الذى نتعذب به جميعا، ليس بإمكاننا أن ندين أحدا على الكآبة والأحزان التى تمكنت منه، ولا أحد يستطيع أن ينكر لماذا اكتأب المصريون رغم خفة ظلهم وروحهم المرحة التى يتمتعون بها؟.

لن نتحدث هنا عن حل سياسي فهذا شأن آخر، ربما لا يـُراد لنا أن نصل إليه، لكن دعونا نفكر في الأدوات التى يمتلكها الجميع (من وعي، قابل للتطور وفق المدخلات التي يـُسربها لعقله، وتـُكـوِّن طريقة التفكير الذى سيحكم بالضرورة صورة الحياة التى يحياها الفرد أو يريد أن يحياها).

ما أعرفه يقينا أننا بحاجة حقيقية لصياغة معادلة لهذه الحياة التى أثقلت ظهورنا بالأحمال، وحمّلت قلوبنا ما يزيد عن احتمالها من هموم ومعاناة، فصارت كابوسا مرعبا نعيشه فى اليقظة والمنام، وأن على كل منا أن يصنع هذه المعادلة بذاته (وفق ظرفه وأدواته وطريقة تفكيره كى يتصالح مع الحياة)، وإلا فلننهى حياتنا برصاصة الرحمة!!

ليس هناك معادلة جاهزة بإمكانك طلبها من محل عطارة أو تحصل عليها من كارفور، أو غيره، بل هناك معادلة ينبغي أن تخرج من رحم الجحيم، ومن العبث في بلادنا أن نلجأ لما سميناه في حياتنا بدجل التنمية البشرية الذي استعرناه من الغرب بعد أن شوهناه، وتحول لسبوبة تبيع الوهم، وهو فيما أعلم فرع من فروع علم النفس له أسسه المعرفية التى تتعامل مع كل حالة على حدة.

لسنا بحاجة أيضا لما يقوله رجال الدين عن الصبر والاحتساب وكروشهم مملوءة سحتا بما يصنعون من تخدير للناس ووهم يعدهم بالجنة الموعودة، وينسيهم نصيبهم من الدنيا، والذى يقع بالتبعية فى خزائن رجال الأعمال الذين يظهرون على شاشاتهم، ولتذهب عدالة التوزيع إلى الجحيم يسبقها الفقراء أنفسهم.

إن كان من ثمة حل فى معركتنا مع الحياة، التى وضعتنا ظروفنا لكراهيتها فحاربتنا هي بالكراهية ذاتها، ففي رأيي هو أن يعيد كل منا صياغة حياته وفقا لظروفه التى يحياها، وبمكاشفة مع النفس ليصل إلى ما يستطيع تقديمه بنجاح وباحترافية، ويسعى لبلورته فى مشروع ما، وهو مقتنع تماما بما يصنع، كى يكون بمقدوره تحمل عواقب وعوائق الرحلة، وهو مرتاح البال والضمير تجاه صراعه مع الحياة.

بعبارة واحدة اصنع ما أنت قادر عليه باحتراف، وفكر كيف تضعه في مشروع ما لترى ذاتك، وقتها لن تعيش في الجنة الموعودة، بل ستكون في مقام دنيوي سيطيب لك العيش فيه رغم منغصات الحياة، لأنك فكرت ودبرت وشيدت حياتك كما تريد أنت، لا كثور فى ساقية أرغمته الحياة على الدوران فيها وهو مغمض العينين.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

«حرب المعلومات».. العالم يتسلح بـ«القرصنة الإلكترونية»

  لم تعد الدول الكبرى بحاجة لإطلاق مزيد من الرصاص لتحسم نفوذها على منطقة ما، بقدر ما هي بحاجة لحرب المعلومات والأفكار التي تستثمرها لدفع وتحشيد دول أخرى لتخوض حربا بالوكالة عن مصالحها. ولعل هذا ما دفع وزير الدفاع الأمريكي آشتون كارتر للتشديد أمام لجنة ميزانية في الكونجرس الأمريكي على أن “الحرب الإلكترونية أصبحت أكثر تطورا وقساوة بشكل متصاعد ومرعب”، واقترح زيادة الميزانية المخصصة للحرب المعلوماتية إلى 6,7 مليار دولار في عام 2017، بينما طالب نائب بالكونجرس الأمريكي يدعى آدم كنزنجر بوضع ميزانية بقيمة 20 مليون دولار خلال العشر سنوات القادمة، لإنشاء مركز تحليل للمعلومات والتقارير المعادية للولايات المتحدة، وقال «علينا كدولة معرفة كيف نكسب حرب الأفكار، دون إطلاق المزيد من الرصاص، هكذا نفوز بالحرب الباردة»، فماذا صنعت القرصنة الإلكترونية في العالم، وكيف غيرت إدارة الصراع بين الدول، خاصة بعد تورط روسيا في حسم نتائج الانتخابات الأمريكية لصالح ترامب، واختراقها للحزب الديمقراطي حسبما أقر الأخير . سفير روسيا في أمريكا يخوض ترامب صراعا مع أجهزة الاستخبارات الأمريكية حول القرصنة

الشباب فـي زمن الشك

لم يعد جيل الشباب في مصر يبالي بالمسميات وبالمصطلحات الموحية بالمعرفة في ظاهرها، ليس عن جهالة، بل لأن ما رأوه من أهوال ومفارقات ومتناقضات خلال  تعاقب 4 أنظمة رئاسية  في 6 سنوات حتى الآن علَّمهم أن العبرة بالنتائج، وأن ما يتحقق على أرض الواقع هو الميزان الحقيقي لقيمة ما يقال، أما ما عدا ذلك فمجرد شعارات زائفة لسنا بحاجة إليها. في بداية العام تم إعلان 2016 عامًا للشباب، وكان الشعار: “بقوة شبابها تحيا مصر”، إيمانًا من الدولة بأهمية الشباب فى صياغة الحاضر وصناعة المستقبل، مرت الأيام وتم اعتقال عدد من الشباب في حملات عشوائية سبقت أحداث “جمعة الأرض” التى لم تمر سوى باعتقال عدد آخر. جرت أحداث كثيرة ليس آخرها ما حدث بعد اختيار فيلم “اشتباك” للمخرج الشاب محمد دياب في قائمة أفضل 10 أفلام في مهرجان كان السينمائي، إذ عرض التليفزيون المصري تقريرا عن دياب مفاده التخوين وعداوة الدولة.. دياب لم يكن أوَّل من تُشوَّه سمعته ولن يكون الأخير،  فالقوسان مفتوحان ضيفوا بينهما مَن شِئتم. جيل الشباب لم يشهد أوهاماً كثيرة صدَّرتها الدولة لأجيال سبقتهم على أنها انكسارات خرجت من رحمها انتصارات عظي