التخطي إلى المحتوى الرئيسي

جـريمة الحيــاة


 1

كثير منا يزعم أنه ضحية شبكة العلاقات الإنسانية التي تحيط به بدءاً من أفراد الأسرة مروراً بالأصدقاء والأحبة انتهاء بالعابرين في الطرقات والمواصلات العامة. بعضنا أيضاً يتلذذ بنفسية المضطهد ويمصمص الشفاه وتنهال دموعه بسبب ومن دون، وآخرون ينتشون بنفسية الجلاد ويتفاخرون بأنهم تجبَّروا في أخذ حقوقهم، أو ما يزعمون أنه حقوقهم، ويتباهون بأنهم لطخوا وجوه خصومهم بالمهانة، ما يستدعي بدوره تساؤلًا منطقياً: إذا كان الجميع يشتكي الاضطهاد، فمَـن اضطهد مـَن؟ ومـَن ظلم الآخر؟


وهل الحياة جريمة نعاقب على الميلاد فيها، وإذا كانت المسألة على هذا النحو، حيث يشتكي الجميع من الجميع، ونتحول من ضحايا إلى جلادين؟ فأين يكمن الخلل، ولماذا صارت العلاقة الإنسانية ميداناً لجلد ذواتنا، وتحول البعض تجاه الآخر لأدوات تعذيب فى تبادل للمقاعد، ولماذا يمارس كل منا السادية (لذة التعذيب) على الآخر دون أن ينتبه إلى أنه كان يشكو الحال نفسه بالأمس القريب؟

وما الذي بـدّل هدف العلاقات الإنسانية من وسيلة للسعادة ومقاومة الوحدة الموحشة إلى درب من دروب النكد والاستمتاع بالوحدة والانعزال، فهل تـُغيرنا الحياة أم أننا ننسى ونقع في الفخ ذاته؟ وهل جنت علينا الحياة أم أننا من جنى عليها؟ فمـَـن ظلم مـَن؟ أولم يمر بخاطر كل منا ولو لمرة لماذا يعامله المقربون منه بطريقة لا ترضيه، وهل جرؤ أحد على الاعتراف بجبروته وساديته في الحياة؟

وهل ضبط أحدنا ذاته يوماً وهو يسائل نفسه كم مرة استحل حقوق غيره، وكم مرة ظلم أحداً أو ظلمه أحد؛ هل هو ضحية أم جلاد؟..
وما المنطق الذي يحكم شبكة العلاقات بين البشر ويقدمنا قرابين على مذبح التشوه النفسي والذهني ليصل بنا لمرحلة الفصام عن نفوسنا القديمة التي نستبدلها كما نستبدل ملابسنا؟ بعبارة أخرى: لماذا لم نعد نحن؟

2

من منا لا يملك الكثير من الحكايا عن طعن الأقارب ووقوع الصراعات معهم بين شد وجذب بين نساء العائلة على سبيل المثال، أو نفسنة الظروف المادية، أو اختلاف على زواج أو ميراث…إلخ، ملايين الوقائع والمواقف أيضاً تسمعها عن غدر الأصدقاء وتنكرهم، وأوهام ما يـُسمى في بلادنا بـ”العشرة” و”العيش والملح|”، وهي أول ما يـُدهس تحت الأقدام كما تدهس السجائر، علاقات الحب التي تتحول إلى عداوة شرسة حال انتهائها، تبادل الاشتباكات بين الأزواج كأنهما في ساحة حرب، ارتفاع معدل الطلاق، حرب الكلام المتطرفة بين النساء والرجال التي تصل حد الصبيانية على مواقع التواصل الاجتماعي.. باختصار بركان الغضب الذي يدور في نفوس الجميع تجاه الجميع؟

صورة أخيرة نرصدها هنا عن آباء تقتصر مهامهم على تلقيح الأرحام، وأمهات تدفع أرحامهن الأطفال إلى الشوارع، ومفهوم الزواج المغلوط على أنه مِلكية وتقييد لحرية الطرفين، والأُخـوّة أو الصداقة التي يظن البعض أنها تهب حق التدخل في الخصوصية والرقابة، علاقات أخرى تطالب البعض بأن تكون تفاصيل الحياة مشاعاً تلوكه الألسن وإلا فأنت متهم بالانعزال إن لم تـُوصف بغرابة الأطوار.

3

كل ما سبق ربما يعود، بحسب ما أرى، إلى جهلنا بأبجديات الحياة، وطبيعة العلاقات والحدود بين البشر، فاختلطت الأمور وصارت الابتسامة في وجه فتاة أو شاب علامة إعجاب وتوق إلى إقامة علاقة، ونظرة الرغبة بين جسدين صارت علاقة حب، وأي لقاء عابر بين اثنين أصبح صداقة، وتناول وجبة ولو على سبيل الصدفة “عيش وملح”.

نحن شعب عاطفي بامتياز، نرفع من شأن العاطفة على حساب المنطق، ولا نفكر بالأساس في تحديد مفاهيم العلاقة (صداقة حب زواج عمل بنوة أمومة أبوة) وما يترتب عليها من حدود العلاقة وطبيعتها.

علينا التخلي عن الظن بأننا آلهة لا تخطئ، ونحتكم إلي العقل والمنطق غير غافلين عن سياقات المواقف والأحداث، وأن نتعافى من خطيئة عدم الاعتراف بالخطأ، وقتها فقط سنكون على مشارف تقليص تشوه العلاقات نفسياً واجتماعياً، فتشوهاتنا وجبروتنا سيظل موجوداً ما بقيت الحياة قائمة، فكما عودتنا أن قانونها الصراع الدائم بين الضحية والجلاد، علينا التخلص من العاطفة التى تربك المنطق، وتجعلنا نبتعد عن جوهر الخلاف ونتجادل في فرعيات تتوه في ثناياها الحقيقة.

ستظل جريمتنا تجاه بعضنا البعض قائمة ما لم تتم معالجة هذه التشوهات بشكل أو بآخر، لا نتحدث هنا عن مجتمع مثالي، فهذا لم يكن ولن يكون، لكن يظل المطلب الأساسي أن نحد من جرائمنا تجاه أنفسنا، لنهدأ بالًا ولو قليلًا قبالة مارد الزمن الذى يطحن عظامنا في هذا البلد، كى لا تصبح جرائم الروح والنفس ظاهرة يتمني الجميع فيها لا الهجرة إلى بلاد أكثر تحضراً نسبياً، بل أن يعيش في طور الغابة حيث الحيوان يقتل ويطارد ويذبح لإشباع حاجته إلى الطعام لا لمجرد التلذذ بالدماء والاستمتاع بالسادية والجريمة في وضح النهار.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

«حرب المعلومات».. العالم يتسلح بـ«القرصنة الإلكترونية»

  لم تعد الدول الكبرى بحاجة لإطلاق مزيد من الرصاص لتحسم نفوذها على منطقة ما، بقدر ما هي بحاجة لحرب المعلومات والأفكار التي تستثمرها لدفع وتحشيد دول أخرى لتخوض حربا بالوكالة عن مصالحها. ولعل هذا ما دفع وزير الدفاع الأمريكي آشتون كارتر للتشديد أمام لجنة ميزانية في الكونجرس الأمريكي على أن “الحرب الإلكترونية أصبحت أكثر تطورا وقساوة بشكل متصاعد ومرعب”، واقترح زيادة الميزانية المخصصة للحرب المعلوماتية إلى 6,7 مليار دولار في عام 2017، بينما طالب نائب بالكونجرس الأمريكي يدعى آدم كنزنجر بوضع ميزانية بقيمة 20 مليون دولار خلال العشر سنوات القادمة، لإنشاء مركز تحليل للمعلومات والتقارير المعادية للولايات المتحدة، وقال «علينا كدولة معرفة كيف نكسب حرب الأفكار، دون إطلاق المزيد من الرصاص، هكذا نفوز بالحرب الباردة»، فماذا صنعت القرصنة الإلكترونية في العالم، وكيف غيرت إدارة الصراع بين الدول، خاصة بعد تورط روسيا في حسم نتائج الانتخابات الأمريكية لصالح ترامب، واختراقها للحزب الديمقراطي حسبما أقر الأخير . سفير روسيا في أمريكا يخوض ترامب صراعا مع أجهزة الاستخبارات الأمريكية حول القرصنة

هل تكرهنا الحيــاة؟!

يـُروى فى الأثر الشعبي أن كثيرا من المصريين حينما يضحكون حتى تمتلئ عيونهم بالدموع، يتوجهون بحديثهم إلى الله “خير اللهم اجعله خير”، ويظلون دائما فى انتظار وقوع كارثة، وكأن الفرحة الغامرة التى أحالت ضحكتهم بكاء خطيئة اقترفوها، وها هم في انتظار أن يُـنزل القدر عقابه على سعادتهم . فهل نحن شعوب تكره الحياة وتهابها إلى هذا الحد؟ 1 حينما يمر أحدنا بلحظات من السعادة مع الأهل أو الأصدقاء أو يحقق نجاحا ما، يظل يترقب المجهول، وينتظر من القدر مفاجأة غير سارة، تـُحيل حياته جحيما، فهل أصابنا القلق وتمكنت المخاوف من عقولنا، فأصابتنا الهلاوس، وصار المجهول شبحا يطارد عقولنا، ونال من سلامتنا النفسية والعقلية، وصرنا نصارع طواحين الهواء في الشوارع والأسواق، ونعيش خائفين من أوهام تحجبنا عن الحياة وتحجب الحياة عنا . 2 صارت الوجوه عابسة، والقلوب غاضبة، وبراح الأرواح معلق بخرم إبرة، بات الشك والريبة والترقب هى المشاعرالتى يصدرها بعضنا لبعض، وحين نلمح شُـبهة ابتسامة على وجه من الوجوه، قد نتهمه بالمرض العقلى، ونردد وتطيب الحياة لمن لا يبالي، بل قد يصل بنا الأمر لمطالبتنا باعتقاله مجتمعي

الشباب فـي زمن الشك

لم يعد جيل الشباب في مصر يبالي بالمسميات وبالمصطلحات الموحية بالمعرفة في ظاهرها، ليس عن جهالة، بل لأن ما رأوه من أهوال ومفارقات ومتناقضات خلال  تعاقب 4 أنظمة رئاسية  في 6 سنوات حتى الآن علَّمهم أن العبرة بالنتائج، وأن ما يتحقق على أرض الواقع هو الميزان الحقيقي لقيمة ما يقال، أما ما عدا ذلك فمجرد شعارات زائفة لسنا بحاجة إليها. في بداية العام تم إعلان 2016 عامًا للشباب، وكان الشعار: “بقوة شبابها تحيا مصر”، إيمانًا من الدولة بأهمية الشباب فى صياغة الحاضر وصناعة المستقبل، مرت الأيام وتم اعتقال عدد من الشباب في حملات عشوائية سبقت أحداث “جمعة الأرض” التى لم تمر سوى باعتقال عدد آخر. جرت أحداث كثيرة ليس آخرها ما حدث بعد اختيار فيلم “اشتباك” للمخرج الشاب محمد دياب في قائمة أفضل 10 أفلام في مهرجان كان السينمائي، إذ عرض التليفزيون المصري تقريرا عن دياب مفاده التخوين وعداوة الدولة.. دياب لم يكن أوَّل من تُشوَّه سمعته ولن يكون الأخير،  فالقوسان مفتوحان ضيفوا بينهما مَن شِئتم. جيل الشباب لم يشهد أوهاماً كثيرة صدَّرتها الدولة لأجيال سبقتهم على أنها انكسارات خرجت من رحمها انتصارات عظي