التخطي إلى المحتوى الرئيسي

محمد على كلاي.. أسطورة الضربة «القاضية»


بنظرة صقر يحدق بها في خصمه على حلبة الملاكمة ليرصد نقاط ضعفه، وبخفة فراشة تتحرك، وبقبضة قوية وثابتة تدرك مرادها، صنع الملاكم الأمريكي محمد على كلاي أسطورته، عبر 61 مباراة، منها 56 انتصارا (37 بالضربة القاضية) و5 خسارات، قبل أن يرحل عن عالمنا، عن عمر يناهز 74 عاما، بعد أن فاز ببطولة العالم للوزن الثقيل ثلاث مرات على مدى عشرين عاماً في 1964 و1974 و1978، ليتوج بلقب “رياضي القرن” في عام 1999.


لم يكن كلاي مجرد ملاكم قوته في قبضته، فقد قال ذات يوم إن «الأبطال لا يصنعون في الحلبات، الأبطال يصنعون من شيء عميق في داخلهم مثل الرغبة والحلم والرؤية»، وهو ما يعنى أنه لم يكن آلة من القبضات بقدر ما كان يمتلك وعيا وذكاء أهله لأن يحقق ذاته، وينهى معاركه في الوقت الذى يريد أيضا، وقد كان مدركا لما يصنع حين قال «أنا لست الأفضل، بل أنا الأفضل مرتين لأني لا أضرب خصمي فحسب، بل أختار متى أنهي اللعب».

وصف نفسه فقال إنه “يطير كالفراشة ويلسع كالنحلة”، ورصد النقاد أنه صاحب أسرع وأقوى لكمة في العالم، إذ تعادل قوتها حوالي 1,000 باوند، اعتزل الملاكمة عام 1981 وهو في التاسع والثلاثين من عمره، أصابه مرض الرعاش الذى صارعه طويلا حتى نال منه في الثالث من يونيو 2016.
ولد الملاكم (كاسيوس مارسيلوس كلاي جونيور) في 17 يناير 1942 في مدينة لويفيل بولاية كنتاكي، لعائلة أمريكية سوداء من الطبقة المتوسطة وكان والده ميثوديا، لكن أمه ربته وأخاه على المذهب المعمداني، قبل أن يعتنق الإسلام ويُغيّر اسمه إلى محمد علي كلاي.
«كلاي» تزوج أربع مرات، الأولى كانت عام 1962 من نادلة الكوكتيل «صونجي روى»، وانفصلا عام 1966، ليتزوج في العام التالي من «بيلندا بويد» التي أسلمت بعد الزواج وأصبح اسمها «خليلة علي»، ولكن انتهى زواجهما أيضاً بالانفصال عام 1977، أي عقب حوالي 10 سنوات زواج أنجبا خلالهما 5 أبناء، وذلك بسبب زواجه من «فيرونيكا بورش» عام 1975.
زواج «كلاي» من «فيرونيكا» باء أيضاً بالفشل حيث أعلنا انفصالهما عام 1986، بعد أن أنجبا ابنتين، ليتزوج للمرة الرابعة من «يولندا علي» عقب صداقة بدأت عام 1964 في لوزيفل، وتبنوا طفلا ً واحدا ً اسمه «أسعد»، بالإضافة إلى إنجابه لابنتين من علاقات أخرى.
بداية كلاي في عالم الملاكمة جاءت بمحض الصدفة حين كان في الـ12 من العمر، وحقق عدة ألقاب على المستويين المحلي والوطني وهو دون الـ18، ونال الميدالية الذهبية لأولمبياد روما الصيفية عام 1960 عن فئة وزن الخفيف الثقيل، وفي أكتوبر عام 1960 اتجه اللاعب إلى عالم الاحتراف، حيث خاض خلال السنوات الثلاث التالية 19 نزالا فاز فيها جميعا، بينها 15 بالضربة القاضية.
حقق الأسطورة مفأجاة استوقفت العالم أمام أدواته ومهاراته فى لعبة الملاكمة، ففي فبراير عام 1964 هزم بطل العالم في الملاكمة -آنذاك- سوني ليستون، وحصد بطولة العالم لملاكمة المحترفين للوزن الثقيل للمرة الأولى، مسجلا حينها رقما قياسيا كأصغر ملاكم ‏(22 عاما‏) يحقق لقب البطولة.

وفي عام 1964 استطاع محمد علي إقصاء الملاكم سوني ليستون عن عرش الملاكمة، وكان عمره لا يتجاوز 22 عاماً آنذاك، وبعد انتصاره أعلن اعتناق الإسلام عام 1965 وتغيير اسمه إلى اسم جديد وهو محمد علي فقط دون اسمه الأخير “كلاي” لأنه كان اسم العبودية المطلق عليه، ويعني الطين باللغة الإنجليزية، وكان وراء تلك الحركة المفكر الإمريكي مالكوم إكس، صديقه المقرب والحميم.
جاءت خسارات محمد على الخمس على يد الملاكم جو فرايزر في 1971، والثانية أمام كين نورتون عام 1973، والثالثة أمام ليون سبينكس عام 1978، والرابعة أمام لاري هولمز عام 1980، والخامسة على يد تريفور بربيك عام 1981.

مواجهة الغابة

في واحدة من أقوى مباريات تاريخ الملاكمة استطاع كلاي الانتصار على الملاكم القوي جو فورمان في زائير عام 1974، وأقيمت المبارة في غابة وسميت بالاسم ذاته.
لم تكن الغاية اسما للمباراة فحسب، فخصم كلاي كان نمرا شرسا استطاع الانتصار على فريرز بنتيجة ساحقة وفي إجمالي الإحصاءات، أوقعه بلكمة واحدة 6 مرات في 4 دقائق و30 ثانية، لم يتوقع أحد انتصار محمد علي على فورمان نمر الغابة الشرس.
لكن علي وبتكتيك مدهش استطاع الانتصار على فورمان والحصول على اللقب، وكانت مواجهة الغابة الموضوع الفائز للافلام الثقافية في عام 1996 وصنفت المباراة بأنها سابع أعظم لحظة رياضية في التاريخ.
سبق هذه المباراة معارضة محمد على كلاي للحرب الأمريكية في فيتنام، ورفضه في 1966 الالتحاق بالجيش لمشاركته فيها، فدفع الباهظ الثمين لموقفه منها: سجنوه 3 أعوام، وفي 1967 جردوه من لقبه العالمي ومنحوه لسواه، حتى عاد في 1971 ليواجه جو فريزر على حلبة ماديسون، في مباراة بنيويورك سمّوها “مواجهة القرن” وكانت كذلك فعلاً.
في تلك المباراة التي استمرت 15 جولة، ألحق فريزر أول هزيمة بكلاي الذي هزمه بعدها مرتين: الأولى في 1974 بمباراة من 12 جولة على حلبة ماديسون نفسها، والثانية بعدها بعام من 15 جولة في الفلبين، وكان معظمها دموياً على فريزر، وتابعها أكثر من 300 مليون عبر الشاشات الصغيرة بالعالم.
كانت الجولة الـ14 من المباراة حاسمة على فريزر، بعد أن أمطره كلاي بسيل من اللكمات، ما جعل مدربه، أيدي فوتش، يرمي بالمنديل على الحلبة إيذاناً بعدم قدرة فريزر على المتابعة حتى الجولة الأخيرة، فقد تلطخ وجهه بدمه، وبدا مجهداً بلا توازن ولا قدرة على الثبات، فخسر بالقاضية الفنية نزالاً وصفه كلاي بعدها بأنه: “كان أقرب شيء للموت رأيته بحياتي”.
يبدو أن الرعاش الذى أصاب أسطورة الملاكمة وضعه فى حالة نفسية قاسية، أدلى وقتها بعدد من التصريحات على فترات متباعدة أوحت بأرقه من الحياة، «كرهت كل لحظة من التدريب ولكني كنت أقول لا تستسلم، ابذل جهدا الآن ثم عش بطلا باقي حياتك».
أصيب كلاي في عام 1984 بداء باركنسون (الشلل الرعاشي)، وتدهورت حالته الصحية في عام 2005 بشكل ملحوظ، وتوالت بعدها نكساته الصحية، أمضى فترة من الوقت كل سنة في مستشفى في مدينة فينيكس بولاية أريزونا، ونُقل في فبراير 2013 إلى المستشفى وصرّح شقيقه رحمن علي لصحيفة نيويورك أنه في حالة حرجة وقد يرحل في أيّ لحظة، قبل أن تنفي ابنته ذلك، كما عانى من التهاب في الرئة والبول أُدخل على إثره المستشفى عامي 2014 و2015.
وفي الثاني من يونيو 2016 أدخل كلاي للمستشفى مُجددا بسبب مشكلة في التنفس، وبعدها أكّدت الصحف والقنوات العالمية بأن الملاكم الأسطوري يحتضر فعلاً، وأن عائلته تتجهز لإجراء مراسم الدفن بعدما أعلن الأطباء أنه على وشك الموت، قبل أن تُعلن وفاته صباح 4 يونيو.
رحل أسطورة الرياضة محمد على كلاي، وستظل مسيرته مليئة بالتحدى والجسارة والجرأة والوعى، وسنتذكر دوما قوله: «إذا استطاعوا أن يصنعوا البنسلين من الخبز المتعفن، فإنهم يستطيعون بالتأكيد صنع شيء منك».

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

«حرب المعلومات».. العالم يتسلح بـ«القرصنة الإلكترونية»

  لم تعد الدول الكبرى بحاجة لإطلاق مزيد من الرصاص لتحسم نفوذها على منطقة ما، بقدر ما هي بحاجة لحرب المعلومات والأفكار التي تستثمرها لدفع وتحشيد دول أخرى لتخوض حربا بالوكالة عن مصالحها. ولعل هذا ما دفع وزير الدفاع الأمريكي آشتون كارتر للتشديد أمام لجنة ميزانية في الكونجرس الأمريكي على أن “الحرب الإلكترونية أصبحت أكثر تطورا وقساوة بشكل متصاعد ومرعب”، واقترح زيادة الميزانية المخصصة للحرب المعلوماتية إلى 6,7 مليار دولار في عام 2017، بينما طالب نائب بالكونجرس الأمريكي يدعى آدم كنزنجر بوضع ميزانية بقيمة 20 مليون دولار خلال العشر سنوات القادمة، لإنشاء مركز تحليل للمعلومات والتقارير المعادية للولايات المتحدة، وقال «علينا كدولة معرفة كيف نكسب حرب الأفكار، دون إطلاق المزيد من الرصاص، هكذا نفوز بالحرب الباردة»، فماذا صنعت القرصنة الإلكترونية في العالم، وكيف غيرت إدارة الصراع بين الدول، خاصة بعد تورط روسيا في حسم نتائج الانتخابات الأمريكية لصالح ترامب، واختراقها للحزب الديمقراطي حسبما أقر الأخير . سفير روسيا في أمريكا يخوض ترامب صراعا مع أجهزة الاستخبارات الأمريكية حول القرصنة

هل تكرهنا الحيــاة؟!

يـُروى فى الأثر الشعبي أن كثيرا من المصريين حينما يضحكون حتى تمتلئ عيونهم بالدموع، يتوجهون بحديثهم إلى الله “خير اللهم اجعله خير”، ويظلون دائما فى انتظار وقوع كارثة، وكأن الفرحة الغامرة التى أحالت ضحكتهم بكاء خطيئة اقترفوها، وها هم في انتظار أن يُـنزل القدر عقابه على سعادتهم . فهل نحن شعوب تكره الحياة وتهابها إلى هذا الحد؟ 1 حينما يمر أحدنا بلحظات من السعادة مع الأهل أو الأصدقاء أو يحقق نجاحا ما، يظل يترقب المجهول، وينتظر من القدر مفاجأة غير سارة، تـُحيل حياته جحيما، فهل أصابنا القلق وتمكنت المخاوف من عقولنا، فأصابتنا الهلاوس، وصار المجهول شبحا يطارد عقولنا، ونال من سلامتنا النفسية والعقلية، وصرنا نصارع طواحين الهواء في الشوارع والأسواق، ونعيش خائفين من أوهام تحجبنا عن الحياة وتحجب الحياة عنا . 2 صارت الوجوه عابسة، والقلوب غاضبة، وبراح الأرواح معلق بخرم إبرة، بات الشك والريبة والترقب هى المشاعرالتى يصدرها بعضنا لبعض، وحين نلمح شُـبهة ابتسامة على وجه من الوجوه، قد نتهمه بالمرض العقلى، ونردد وتطيب الحياة لمن لا يبالي، بل قد يصل بنا الأمر لمطالبتنا باعتقاله مجتمعي

الشباب فـي زمن الشك

لم يعد جيل الشباب في مصر يبالي بالمسميات وبالمصطلحات الموحية بالمعرفة في ظاهرها، ليس عن جهالة، بل لأن ما رأوه من أهوال ومفارقات ومتناقضات خلال  تعاقب 4 أنظمة رئاسية  في 6 سنوات حتى الآن علَّمهم أن العبرة بالنتائج، وأن ما يتحقق على أرض الواقع هو الميزان الحقيقي لقيمة ما يقال، أما ما عدا ذلك فمجرد شعارات زائفة لسنا بحاجة إليها. في بداية العام تم إعلان 2016 عامًا للشباب، وكان الشعار: “بقوة شبابها تحيا مصر”، إيمانًا من الدولة بأهمية الشباب فى صياغة الحاضر وصناعة المستقبل، مرت الأيام وتم اعتقال عدد من الشباب في حملات عشوائية سبقت أحداث “جمعة الأرض” التى لم تمر سوى باعتقال عدد آخر. جرت أحداث كثيرة ليس آخرها ما حدث بعد اختيار فيلم “اشتباك” للمخرج الشاب محمد دياب في قائمة أفضل 10 أفلام في مهرجان كان السينمائي، إذ عرض التليفزيون المصري تقريرا عن دياب مفاده التخوين وعداوة الدولة.. دياب لم يكن أوَّل من تُشوَّه سمعته ولن يكون الأخير،  فالقوسان مفتوحان ضيفوا بينهما مَن شِئتم. جيل الشباب لم يشهد أوهاماً كثيرة صدَّرتها الدولة لأجيال سبقتهم على أنها انكسارات خرجت من رحمها انتصارات عظي